- أحاديث رمضان
- /
- ٠01رمضان 1415 هـ - قراءات قرآنية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
تدبر الآيات وفهم مضامينها عمل جليل لا يقل عن تلاوة القرآن :
أيها الأخوة الكرام ؛ ربنا جل جلاله يقول :
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
فتلاوة القرآن في رمضان جزء من رمضان ، لكن تدبر الآيات ، وفهم مضامينها ، وإدراك الإشارات الدقيقة التي تشير إليها ، هذا عمل جليل ، لا يقل عن تلاوة القرآن .
أيها الأخوة ؛ أحياناً الإنسان يكون هناك نص بالقانون لصالحه ، يتمسك فيه ، ثم يفاجأ أن هذا النص لا يُعمل به ، وأن الأمور تجري على خلاف هذا النص ، فيصاب بخيبة أمل ، لكنك مع كلام الله الأمر مختلف ؛ القرآن الكريم ، نص القرآن الكريم ، كلام خالق الكون، فإذا كان هذا النص لصالحك ، فاطمئن قلباً ولا تقلق ، لأن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعده ووعيده .
الذي جاء في هذا القرآن الكريم من هذه الآيات التي قرئت اليوم ، الله سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
﴿ إِنْ آمَنُوا ﴾
أي أهل الكتاب :
﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾
الإعجاز في الإيجاز :
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾
أي لم يؤمنوا :
﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾
أي هناك عداوة ، من لوازم هذه العداوة أنهم يكيدون لك ، يكيدون لك و أنت لا تبالي بهم :
﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
إذاً : إذا الإنسان ما قَبِل الهدى سيكون عدواً للحق ، فإذا كان قوياً ، فسوف يتحرك لإيقاع الأذى بالمؤمن ، لكن المؤمن ينبغي ألا يساوم على دينه ، وألا يداهن ، فإذا بقي مصراً على إيمانه ودينه ، فالله سبحانه وتعالى سيكفيه ، سيكفيه هذا العدو الذي يتربص به .
فهذه الآية تفيد أن الإنسان يجب ألا يساوم على دينه ، ولا يقبل بأنصاف الحلول ، لأن الله عز وجل مع الحق ، وحينما تتمسك بدينك ، وإسلامك ، ولو أغضبت من أغضبت ، فإن هؤلاء الذين غضبوا ، لو كانوا أقوياء ، ولو كانوا يحبون الأذى ، فالله سبحانه وتعالى سيكفيكهم :
﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
المداهنة والمداراة :
لذلك ننطلق من حكمين في هذا الموضوع ؛ المداهنة والمداراة .
النبي عليه الصلاة والسلام قال :
((بعثت بمداراة الناس))
المداراة : أن تبذل الدنيا من أجل الدين ، أما المداهنة فأن تبذل الدين من أجل الدنيا ، فالمداهنة من صفات المنافقين ، والمداراة من صفات المؤمنين ، فأنت كن مع الله ولا تبال .
كن مع الله تر الله معك ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد ، كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد ، أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .
الترابط بين آيات القرآن الكريم :
الآية الثانية : الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾
من معاني هذه الآية الإحكام ، الترابط ، فهناك ترابط بين آيات القرآن الكريم ، وهناك ترابط بين سوره ، وهناك ترابط بين كلمات الآية الواحدة ، لكن الذي يلفت النظر في القرآن الكريم أن هذا الترابط ربما لم يكن جلياً واضحاً ، الترابط في كتاب الله لا يكون كما نفعل نحن عن طريق أدوات ربط ، بل يكون عن طريق المعنى ، وهذا مما يعطي الإنسان نشاطاً في فهم كلام الله ، الشيء الواضح جداً الإنسان ينصرف عنه ، لكن النص الموحي الذي يحتاج إلى كدِّ ذهن ، وإلى اجتهاد في فهمه ، هذا يولد فيك طاقات كبيرة جداً ، فمن الأسلوب التربوي أن يكون في النص شيء من الإيحاء ، الإيحاء يأتي من طريقة عجيبة في نظم النص .
فمثلاً : هذه الآية التي قرئت اليوم :
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾
هذا أول قسم :
﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
ثاني قسم . الثالث :
﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً ﴾
يبدو أن هناك علاقة بين قوله تعالى :
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
أيها الأخوة ؛
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ ﴾
هو ربما أعدناها إلى الله عز وجل ، وربما أعدناها إلى الإنسان ، ماذا ينتج لو أعدنا هذا الضمير إلى الله ؟
معنى هذا أن الإنسان مسير ، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يسيره ؛ إن في طريق الهدى ، أو في طريق الضلال ، وإذا اعتقدنا بالجبر ؛ أي أن الله سبحانه وتعالى مسير الإنسان في كل أفعاله ، وليس للإنسان كسب إطلاقاً ، ولا اختيار ، ولا مبادرة ؛ ألغينا التكليف ، وألغينا الأمانة ، وألغينا الثواب ، وألغينا العقاب ، وألغينا الجنة ، وألغينا النار ، وألغينا التبعية ، وألغينا المسؤولية .
إذاً على من تعود (هو) ؟ ينبغي أن تعود على الإنسان ، هذا ما تمليه علينا العقيدة الصحيحة ، لكن هل في الآية قرينة مانعة من أن تعود (هو) على الله ؟ هناك قرينة مانعة ؟ القرينة المانعة أخ معتز :
﴿ فَاسْتَبِقُوا ﴾
أنت ممكن أن تركب سيارة ، والمقود بيدك ، وجالس إنسان في المقعد الخلفي ، تعطي أمراً للذي يجلس في المقعد الخلفي ، ولا شيء بيده ، أن ينحرف نحو اليمين ، هذا كلام ليس له معنى ، يُعطى الأمر بالانحراف نحو اليمين أو نحو اليسار لمن بيده المقود ، فلما ربنا عز وجل قال :
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾
قال :
﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
معنى هذا أن المقود بيد الإنسان ، والإنسان مخير ، والإنسان مكلف ، والإنسان بيده أن يصلي أو لا يصلي ، بيده أن يستقيم أو لا يستقيم ، وإلا الأمر ليس له معنى ، لا معنى للأمر إذا كان الضمير هو يعود على الله عز وجل ، حسناً .
تمتع الإنسان بحرية الاختيار مادام حياً :
لكن الآية الآن أي الكلمات التي بعد هذا الكلام :
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
في أي مكان كنت ، وفي أية مكانة كنت .
لا تأمن الموت في طرف ولا نفس وإن تمنَّعت بالحــجاب والحـــــــــــــرس
فمـــــــــــــــا تزال سهـــام الموت نافذة في جنب مدرع منـــهــــــــــــــــا ومترس
أراك لســــــــــت بوقــــاف ولا حــــــــــذر كالحاطب الخابط الأعواد في الغلــس
ترجو النجـاة ولم تســلك مسالكها إن السفينـــــــــة لا تجــري على اليبس
***
ما علاقة :
﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
أي انتبه أيها الإنسان ، أنت في الدنيا تتمتع بنعمة لا تقدر بثمن ، هو أنك مختار ، هو أنك مريد ، هو أنك تملك الكسب ، كسب الصالحات ، أو كسب السيئات ، وربما كان هذا الاختيار سبب دخولك الجنة ، وسبب السعادة الأبدية ، وهذا الاختيار ليس أبدياً ، خيار محدد بزمن :
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
لأنه إذا جاء الموت ألغي الاختيار ، أينما كنت ، في أي مكان كنت ، وفي أية مكانة كنت :
﴿يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
معنى ذلك أنك الآن تتمتع بالاختيار ؛ بإمكانك أن تصلح ما سلف ، بإمكانك أن تتوب ، بإمكانك أن تستقيم ، بإمكانك أن تحسن ، بإمكانك أن تصلي ، أن تقرأ القرآن ، أن تغض بصرك ، أن تصلح بيتك ، أن تصلح عملك ، أن تتحرى الحلال في دخلك ، أن تتحرى الصواب في إنفاقك ، هذا كله الآن بيدك ، لأنك أنت مخير ، أما إذا جاء الموت ، ألغي الاختيار ، وختم العمل ، ودخلت في دار الجزاء ، فلذلك : من حيث
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾
هو تعود على الإنسان ، والدليل :
﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
أما إذا جاء الموت فانتهى الاختيار ، والدليل :
﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً﴾
هذه الآية الثانية :
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
محبة الإنسان للجمال و الكمال و النوال :
الآية الثالثة : الإنسان يحب ماذا ؟ قال الإمام الغزالي : " الإنسان يحب الجمال ، ويحب الكمال ، ويحب النوال " .
تحب من يعطيك شيئاً ثميناً ، وتحب الأخلاقي ، وتحب الشيء الجميل ، أما الآية الكريمة :
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾
قال:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾
ظلموا ماذا ؟ أنفسهم:
﴿لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾
أي قوة هذه ؟ قوة الجمال ، وقوة الكمال ، وقوة النوال .
فالإنسان عندما يحب غير الله عز وجل ، يكون قد ارتكب خطأ فاحشاً ، يكون عديم الإدراك ، عديم الفهم ، عديم الذوق ، يكون مظلوماً ، ظلم نفسه ظلماً كبيراً .
مثلاً وإن كان المثل حاداً جداً : قطرميز ثمنه يقدر بعشرين ليرة ، كبير ، وكأس كريستال ثمنها ألف ليرة ، وألماسة ثمنها مئة ألف ، أو خمسمئة ألف ، هكذا مقدارها ، قلنا لك : اختر ، فأنت إذا اخترت القطرميز ، تكون قد ظلمت نفسك ، اخترت عشرين ليرة على خمسمئة ألف ، لكن مقياسك غلط ، أخذت الأكبر ، لو كنت عميقاً بالفهم والإدراك ، تختار الألماسة ، فلذلك :
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾
هؤلاء ظلموا أنفسهم ، لأنهم أحبوا غير الله ، تعلقوا بالدنيا ، والدنيا زائلة ، تعلقوا بامرأة ، والمرأة فانية ، تعلقوا بالمال ، والمال لا يأخذونه معهم إلى القبر ، تعلقوا بمتع رخيصة ، وفاتتهم السعادة الكبرى ، لذلك :
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾
هناك رجل من الدعاة كان في أمريكا ، يجلس بالحديقة وإلى جانبه رجل أمريكي ، فصار بينهما تعارف ، قال له : حدثني عن الإسلام ، حدثه بطلاقة وببلاغة ، ومضى على حديثه ساعة ، فما كان من هذا الرجل إلا أن أخرج من جيبه دولاراً ، وقال : أنا هذا أعبده ، هذا إلهي .
أحياناً يكون المال هو الإله ، أحياناً اللذة ، الشهوة ، المتعة ، الجاه ، السيطرة ، هذه كلها آلهة :
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾
فلذلك :
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾
انظر حينما أحب غير الله ظلم نفسه ، فلما رأى العذاب الأبدي
﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾
أي الله عز وجل - من حيث النوال - عطاؤه أبدي سرمدي ، ومن حيث الكمال :
﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
ومن حيث الجمال الإقبال عليه يُدخل النفس في سعادة لا توصف :
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾